الكيسانية من الفرق التي خرجت عن التشيع الحق وقالت بإمامة محمد بن الحنفية الولد الأكبر لأمير المؤمنين (عليه السلام). ويظهر من بعض المؤلفين في الفرق أنهم بين من يقول بإمامته بعد أبيه وبين من يقول بأنه الإمام الشرعي بعد الحسن والحسين (عليه السلام). كما ينسب إليهم أنهم قالوا بأنه الإمام المهدي المنتظر? وأنه لم يمت ولن يموت وسيرجع إلى الناس فيملأ الأرض عدلًا بعدما مُلئت جورًا. وأسرف بعضهم إلى حد الكفر فادّعى له الألوهية وأنه بعث حمزة البربري نبيًا إلى الناس. وادّعى قوم من القائلين بإمامته أن الإمامة قد انتقلت بعد موته إلى ولده عبد الله بن محمد? إلى أخيه عليّ بن محمد بن الحنفية? إلى غير ذلك من الأقوال التي ينسبها كتاب الفرق إلى الكيسانية..
والكيسانية بجميع فروعها يجمعها شيئان:
أحدهما: قولهم بإمامة محمد بن الحنفية، وإليه كان يدعو المختار بن أبي عبيدة.
والثاني: قولهم بجواز البداء على الله عز وجل.
واختلفت الكيسانية في سبب إمامة محمد بن الحنفية، فزعم بعضهم أنه كان إماما بعد أبيه عليّ بن أبي طالب. وقال آخرون منهم: إن الإمامة بعد عليّ كانت لابنه الحسن، ثم للحسين، ثم صارت إلى محمد بن الحنفية بوصية أخيه الحسين إليه حين خرج من المدينة إلى مكة حين طولب بالبيعة ليزيد بن معاوية. ثم افترق الذين قالوا بإمامة محمد بن الحنفية، فزعم قوم منهم يقال لهم (الكربية) أصحاب أبي كرب الضرير: أن محمد بن الحنفية حي لم يمت، وإنه في جبل رضوى، وعنده عين من الماء وعين من العسل يأخذ منه رزقه، وعن يمينه أسد، وعن يساره نمر، يحفظانه من أعدائه إلى وقت خروجه، وهو المهدي المنتظر. وذهب الباقون من الكيسانية إلى الإقرار بموت محمد بن الحنفية، واختلفوا في الإمام بعده، فمنهم من زعم أن الإمامة بعده رجعت إلى ابن أخيه عليّ بن الحسين زين العابدين، ومنهم من قال برجوعها بعده إلى أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية. واختلف هؤلاء في الإمام بعد أبي هاشم، فمنهم من نقلها إلى محمد بن عليّ بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بوصية أبي هاشم إليه، وهذا قول الراوندية[1]، ومنهم من زعم أن الإمامة بعد أبي هاشم صارت إلى بيان بن سمعان، ومنهم من زعم أنها انتقلت بعد أبي هاشم إلى عبد الله بن عمرو بن حرب، وادعت هذه الفرقة ألوهية عبد الله بن عمرو.
وأول من يُقال أنه دعا إلى الكيسانية وإمامة محمد بن الحنفية هو المختار بن أبي عبيد الثقفي، الذي رفع شعار "يا لثارات الحسين (عليه السلام)" وجذب إليه الأنصار والأتباع والنادمين الذي خذلوا الحسين (عليه السلام) في الطف ولم ينصروه. وقام المختار بدور كبير في تقويض النظام الأموي وأخذه الثأر من قتلة الإمام الحسين بن عليّ (عليه السلام) ومطاردتهم عند كل حجر ومدر وقتلهم عن آخرهم وبذلك شفى غليل قلوب الأئمة (عليه السلام) وشيعتهم وأتباعهم. وأصبحت الكوفة مركزًا للفرقة الكيسانية ومنها انطلقت إلى الجزيرة واليمن ومصر حتى وصلت إلى حدود أرمينيا.
وقيل في وجه تسميتهم بالكيسانية أن أول من قال بإمامة محمد بن الحنفية هو المختار ابن عبيدة الثقفي? وكان يلقب بكيسان? وجاء عن الأصبغ بن نباته أن قال: رأيت المختار على فخذ أمير المؤمنين وهو طفل صغير يمسح على رأسه بيده ويقول له: يا كيس? فغلب عليه هذا الاسم.
قال الشهرستاني: أصحاب كيسان مولى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه، وقيل: تلميذ للسيد محمد بن الحنفية (رضي الله عنه)، يعتقدون فيه اعتقادا فوق حده ودرجته، من إحاطته بالعلوم كلها واقتباسه من (السيدين) الأسرار بحملتها[2].
وقال الاسفرائيني: هؤلاء أتباع المختار بن أبي عبيدة الثقفي الذي قام بثأر الحسين بن عليّ بن أبي طالب، وقتل أكثر الذين قتلوا حسينا بكربلاء، وكان المختار يقال له: كيسان، وقيل: إنه أخذ مقالته عن مولى لعليّ (رضي الله عنه) كان اسمه كيسان[3].
وقيل أن المختار لقب بكيسان لأن قائد جيشه أبا عمرة اسمه كيسان? وكان شديدًا على قتله الحسين "ع" وفي نفس الوقت يدعي إمامة محمد بن الحنفية وأن المختار وصيه.
وقد نسبوا إليه القول بالبداء? وعللوا ذلك بأن المختار كان يخبر أصحابه بأمور يدّعي أنّها من وحي السماء فإذا لم تقع يقول لهم: "لقد بدا لربكم وعدل عمّا أخبرني به".
وينسب إليهم الشيخ محمد أبو زهرة في كتاب المذاهب الإسلامية القول بالتناسخ.
وكان من أمر المختار أنه دخل الكوفة مناصرًا لمسلم بن عقيل حينما دخلها موفدًا من قبل الحسين(عليه السلام) فقبض عليه ابن زياد وأدخله السجن? وبعد قتل الحسين(عليه السلام) حاول قتله مرارًا فتشفع به عبد الله بن عمر زوج أخته إلى يزيد بن معاوية? فكتب إلى ابن زياد وأمره بإخلاء سبيله? فالتحق بالحجاز وفيها عبد الله بن الزبير? قد تطلعت نفسه إلى الخلافة بعد قتل الحسين? واستغل نقمة الشعوب الإسلامية على بني أمية بعدما ارتكبوا تلك الجريمة المنكرة مع الحسين وأهل بيته(عليه السلام) فبايع المختار لابن الزبير على أن تكون له ولاية الكوفة إن تم الأمر? وبعد موت يزيد بن معاوية رجع المختار إلى الكوفة وادّعى أنه موفد إليها من قبل ابن الحنفية الوصي الشرعي إلى الحسين(عليه السلام) وولي دمه وأنه استوزره وأوكل إليه أمر الطلب بثأر الحسين (عليه السلام) فوجد في الكوفة? ولا سيما في الأوساط الشيعية? تقبلا لدعوته وتحمسًا في سبيلها? فبايعوه على الطلب بدم الحسين. والتفوا حوله? فمضى يتتبعهم واحدًا بعد واحد حتى قتل أكثر من أخرجهم ابن زياد لحرب الحسين (عليه السلام) فازداد الشيعة تمسكا به والتفافا حوله وانقيادا لأوامره? ونسب إليه المؤرخون أنه كان يدعي أن الملائكة تأتيه بالأخبار والأوامر من محمد بن الحنفية ومما حملهم على أن يصدقوه على حد زعم المحدثين أنه قد عوّد بعض طيور الحمام في خلواته على أن تلتقط الحب من أذنيه? ولما اعتادت على ذلك كانت تأتيه إلى مجلسه العام وتحوم حول أذنيه كما عودها في خلواته? فيدّعي أنهم الملائكة في صورة حمام أبيض تأتيه بالأخبار والأوامر من ابن الحنفية? وقد نسبوا إليه غير ذلك من أساليب الخداع والشعوذة.
ومهما كان الحال فالدين كتبوا في الفرق الإسلامية متفقون على أن هذه الفرقة مصدرها المختار الثقفي وهو الذي روجها ودعا إليها وتستر من ورائها لإغراء الشيعة ليكونوا في جانبه ولا سيما بعد أن كانوا يشكلون القسم الأكبر من سكان الكوفة? وقد تتبع قتلة الحسين عليه السلام لهذه الغاية? ولكن المصادر الشيعية لا تقف من هذا الموقف الذي وقفه المؤرخون من أهل السنة وأيدهم فيه أكثر كتاب الفرق. ولا يستبعد الباحثون من الشيعة أن تكون تلك الحملات عليه كانت من وحي الأمويين والزبيريين لأنه وقف في وجه الفريقين، والسياسة وحدها كانت توجه التاريخ لمصلحتها وأغراضها? وقد سخر الأمويون جماعة لوضع الأحاديث في أخصامهم بقصد التشنيع عليهم وتصويرهم بأبشع الصور. على أن العصر الذي وجد فه المختار الثقفي كان خاليًا من أمثال هذه المقالات ولم تكن معروفة عند أحد من المسلمين العرب والأجانب? وقد عاش في الكوفة مهد التشيع وبين معاصريه وأتباعه جماعة كانوا على صلة دائمة بالأئمة وفيهم من أدرك عليّا (عليه السلام) وتخرج من مدرسته? ولم تغب عنهم آراؤه في الدين وأصوله. وقد بقي خمس سنوات يكررها عليهم من على منبر الكوفة ولم تمض على وفاته أكثر من ثلاثين عامًا? فكيف والحالة هذه يقف المختار بينهم وأكثرهم من الشيعة ويدعي النبوة والوحي وغير ذلك مما نسب إليه من الضلال والكفر المبين? ولا ينكر عليه أحد من تلك الحشود الملتفة حوله? وأكثرهم يدين بولاء أهل البيت وفيهم الكثير ممن عاصروا عليّا (عليه السلام) وظلوا على صلة دائمة بالأئمة من ولده، وكل ذلك مما يوجب التشكيك بتلك المرويات في كتب التاريخ والفرق? هذا بالإضافة إلى أن المرويات عن الأئمة الذين عاصروه تؤكد براءته من كل ما ينسب إليه? فقد جاء في رواية عبد الله بن شريك قال: "دخلنا على أبي جعفر محمد بن عليّ الباقر يوم النحر وهو متكئ وقد أرسل في طلب الخلاف? فقعدت بين يديه إذ دخل عليه شيخ من أهل الكوفة فتناول يده ليقبلها فمنعه من ذلك? ثم قال له من أنت؟ قال: أنا أبو الحكم بن المختار بن أبي عبيدة الثقفي وكان متباعدًا من أبي جعفر (عليه السلام) فمد يده إليه حتى كاد يقعده في حجره بعد أن منعه يده? ثم قال: "أصلحك الله ! إن الناس قد أكثروا في أبي وقالوا والقول والله قولك"? قال وأي شيء يقولون؟ قال: يقولون إنه كذاب ولا تأمرني بشيء إلا قبلته? قال: سبحان الله أخبرني أبي والله أن مهر أمي كان مما بعث به المختار. أو لم يبني دورنا وقتل قاتلينا وطلب بدمائنا فرحمة الله؟ وأخبرني والله أبي أنه كان يمر عند فاطمة بنت عليّ يمهد لها الفراش ويثني لها الوسائد? ومنها أصاب الحديث: رحم الله أباك رحم الله أباك? ما ترك لنا حقًا عند أحد إلا طلبه? قتل قتلتنا وطلب بدمائنا".
وجاء في رواية عمر بن عليّ بن الحسين: أن عليّ بن الحسين (عليه السلام) لما أتى برأس عبيد الله بن زياد ورأس عمر بن سعد خر ساجدًا وقال: الحمد لله الذي أدرك لي ثأري من أعدائي وجزى الله المختار خيرًا.
وفي رواية ابن أبي عمر عن هشام المثنى عن سديد أن أبا جعفر (عليه السلام) قال: لا تسبوا المختار فإنه قتل قتلتنا وطلب بثأرنا وزوج أراملنا وقسم فينا المال على العسرة [4]? ومما لا نشك فيه أن المختار لو كان كما ينسب إليه لم يخف حاله على الإمام زين العابدين (عليه السلام) وولده الإمام أبي جعفر محمد الباقر (عليه السلام) لأنهما كانا على اتصال دائم بأهل الكوفة مقر قيادة المختار? ومنهما كان الشيعة يستمدون أحكام دينهم? والإمام زين العابدين (عليه السلام) حينما ظهر المختار كان يراقب الحالة بالكوفة ويستقصي أخبارها? ولا يسما بعد أن اشتعلت ثورة المختار لأنها كانت للانتقام من قتلة أبيه وأعدائه وبدافع الثأر لما لحقهم من قتل وتشريد. ولا يمكن والحالة هذه أن تخفى عليه حالة المختار وشعوذاته المزعومة? ولو كان كما يصوره كتاب الفرق وبعض المؤرخين خارجا عن الإسلام ومنكرًا لأصوله وضرورياته? ومن كانت هذه حاله لا يمكن أن يترحم عليه الإمام ويدعو له بالخير ويُثني عليه في مجالسه. ولم يحدث التاريخ عن الأئمة (عليه السلام) أنهم كانوا يحابون أحدًا من أعداء الدين لمصلحة تخصهم أو لعمل يحقق لهم مغنما بعيدًا عن أهداف الدين وأغراضه? ومن الجائز القريب أن يكون المختار قد تجاهر وأعلن بأن محمد بن الحنفية قد أمره بقتال الذين حاربوا الحسين (عليه السلام) وقتلوه ليتمكن من حشد الشيعة تحت لوائه? لأنهم العدد الأكبر في الكوفة? ولكنهم يعلمون ما لمحمد بن الحنفية من علو المنزلة في الدين والعلم? وقد سمعوا من أبيه ما يؤكد لهم فضله وعلو شأنه? والمختار في ذلك الظرف من أحوج الناس إلى الأنصار والأتباع لتنفيذ خطته? ولا سيما وقد ظهر ابن الزبير في الحجاز وانتشر دعاته في البلاد ودخلوا الكوفة عاصمة المختار وهي من أطوع العواصم العربية لك ثائر وعلى الأخص الشيعة الذين كانوا يتواثبون مع كل ثائر للتخلص من الأمويين وأنصارهم قتلة الحسين (عليه السلام)? ويؤيد ذلك ما رواه المسعودي في مروج الذهب أن المختار بعد أن يئس من عليّ بن الحسين (عليه السلام) كتب إلى محمد بن الحنفية يطلب منه تأييده في نهضته ويعرض عليه أن يأخذ له البيعة من الناس في الكوفة? فأشار عليه عبد الله بن العباس أن لا يتجاهر في عيب المختار والتشنيع عليه? وذكر له ما يضمره ابن الزبير من العداء والكيد لأهل البيت ورجح له البقاء على صداقة المختار ليكون عونا لهم على ابن الزبير فيما لو حاول الكيد والإساءة لهم? واستطاع المختار أن ينفذ خطته بعد أن التف حوله الشيعة والقسم الأكبر من سكان الكوفة? ولما ظهر ابن الزبير واستتب له الأمر في الحجاز تمنع ابن الحنفية والهاشميون من مبايعته فألح في خصومته لهم وحصرهم في بعض شعاب مكة وجمع كميات من الحطب ليحرقهم إن هم أصروا على عدم بيعته? وكان المختار قد علم بما يلقونه من ابن الزبير? فجهز جيشًا من أربعة آلاف فارس بقيادة أبي عبد الله الجدلي وأمرهم بالإسراع قبل أن يفوت الأوان فلم يشعر ابن الزبير إلا والغزاة يسيطرون على الموقف من مكة? فلم يجد ابن الزبير ملجأ له غير الكعبة فالتجأ إليها. ولما تم للغزاة إنقاذ الهاشميين من الحصار المضروب عليهم في شعاب مكة أرادوا الفتك بابن الزبير وجماعته ولكن محمد بن الحنفية لم يأذن لهم في قتال أحد وخرج من مكة إلى بلد يُقال له (ايله) فأقام به منعزلًا عن الناس حتى قتل ابن الزبير[5] وهذه الحوادث تعطي الباحث صورة عن الأوضاع السياسية في ذلك العصر وعن موقف الطامعين في الحكم من الهاشميين فكل يحاول أن يربح تأييدهم? فابن الزبير يهددهم بأبشع الجرائم إذا لم يقفوا إلى جانبه? والمختار الثقفي يعلن من على منبر الكوفة أنهم يؤيدون حركته الثورية واستغل سكوت ابن الحنفية عنه في إشاعة ذلك بين جماهير الشيعة? ورأى ابن الحنفية نفسه مضطرًا لأن يلزم السكوت تجاه الشائعات التي روجها المختار? لأن حركته تهدف إلى الانتقام من قتلة الحسين (عليه السلام) في الكوفة وهذه الأمنية الغالية عند العلويين الذين تحملوا مرارة تلك الفاجعة الأليمة التي بقيت تحز في نفوسهم وحرمتهم لذة الحياة زمنًا طويلًا.
ومجمل القول أن محمد بن الحنفية الذي تنتمي إليه هذه الفرقة لم يدع الإمامة لنفسه ولم يحدث عنه التاريخ بأنه نازع أحدًا فيها? وكل ما في الأمر أنه لم يجاهر في عداء المختار ولم يتظاهر في خصومته لأسباب سياسية أشارت إليها رواية المسعودي التي أوردناها سابقًا? أما المختار فمن الجائز أن يكون قد انتحل لنفسه بعض الصفات لتدعيم مركزه في الكوفة كما يدعى كتاب الفرق.
ولكن ما ورد عن الإمامين زين العابدين وولده محمد الباقر (عليه السلام) من الثناء والترحم عليه يبعد عنه تلك التهم الباطلة التي لا تتفق مع الإسلام لأن الأئمة من أهل البيت قد أعلنوا رأيهم بصراحة تامة في الفرق الإسلامية التي انحرفت في تفكيرها عن أصول الإسلام وفروعه. أما ما أورده المسعودي في مروج الذهب من أنه كتب إلى الإمام زين العابدين (عليه السلام) يعرض عليه أخذ البيعة له من الناس في الكوفة وخارجها? وأن الإمام رفض ذلك رفضًا باتا وتنكر للمختار ودعوته وأشار على عمه محمد بن الحنفية أن لا يهادنه في تلك العروض ولا يفسح له المجال في الدعوة إليه [6] هذه الرواية على تقدير صحتها لا تدل على أنه كان مشعوذا كما يدعي المؤرخون وكتاب الفرق. ومن الجائز القريب أن يكون رفض الإمام لعروض المختار لعلمه أن أهل الكوفة لا يوثق بهم في قول أو عمل? والإمام نفسه قد وقف على حقيقة أحوالهم ورأى بعينه تخاذلهم عن جده الأعظم (عليه السلام) وعن عمه الحسن ووقوفهم إلى جانب بني أمية في كربلاء? هذا بالإضافة إلى أن الأمويين لم ينته أمرهم? وقد وقفوا يراقبون الأحداث ويعدون العدة للوثبة على العراق والانتقام من كل معارض لهم، وابن الزبير العدو الثاني للهاشميين قد أطل رأسه من الحجاز وبث دعاته في البلاد وهو لا يقل خطرا عن الأمويين. هذه الظروف والملابسات هي التي فرضت على الإمام عليّ (عليه السلام) أن يقف هذه الموقف السلبي من دعوة المختار وهو موقف تفرضه المصلحة وتقتضيه الحكمة? وليس من قصدنا أن ندافع عن المختار أو أن نلتمس له الأعذار ولا التشكيك بأصل وجود فرقة في التاريخ تعرف بالكيسانية? وإنما الذي أردناه أن نبرر موفق محمد بن الحنفية من هذه الفرقة وأنها لم تكن في عصره? وإذا صح وجودها فتكون حادثة بعد وفاته? وموقف الشيعة منهم إن كانوا كما تصفهم كتب الفرق والمقالات أنهم ضالون مضلون? قد خرجوا عن الإسلام وأصوله وضلوا سواء السبيل.
ذكر الشهرستاني أربع فرق من الكيسانية[7]، وهي:
أ - المختارية: أصحاب المختار بن أبي عبيدة الثقفي.
ب - الهاشمية: أتباع أبي هاشم بن محمد بن الحنفية.
ج - البيانية[8]: أتباع بيان بن سمعان التميمي.
د - الرزامية: أتباع رزام بن رزم.
أهم المعتقدات
ادعت الكيسانية النص على محمد بن الحنفية وقالوا بأن الإمامة نص وقد نص أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) على تولية ابنه محمد بن الحنفية الخلافة من بعده.بل زعموا أن محمد بن الحنفية هو المهدي المنتظر (عج).
وقالوا بالتناسخ وحلول الأرواح، وإن الله حلَّ في أجسام الأئمة، وإنه حل في محمد بن الحنفية ثم في عبد الله ابنه ثم انتقل وتحول في عبد الله بن معاوية بن جعفر بن أبي طالب. واعتبرت ابن الحنفية هو المهدي المنتظر الذي يملأ الأرض قسطًا وعدلًا وفسرت الدين على أنه (طاعة رجل) مما شجع على ترك القضايا الشرعية بعد الوصول إلى طاعة الرجل. وقد أباحت الحارثية منهم المحرمات وتركوا القضايا الشرعية. وقالوا بأن الدين طاعة رجل وأَوّلوا الأركان الشرعية (الصلاة والصيام والزكاة والحج) وغير ذلك على رجال فحمل بعضهم على ترك الأمور الشرعية بعد الوصول إلى طاعة الرجل، وكل الأركان كنايات عن رجال معينين.
قال الأشعري: قالت الكيسانية: يرجع الناس في أجسادهم وأبدانهم التي كانوا عليها، ويرجع محمد (صلّى الله عليه وآله) وجميع النبيين فيؤمنون بمحمد وينصرونه، ويرجع عليّ (عليه السلام) فيقتل معاوية وآل أبي سفيان ويهدم دمشق ويغرق البصرة ويحرقها[9].
وزعمت فرقة من الكيسانية أن عليّا في السحاب وان تأويل قول الله (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة) إنما يعني ذلك عليّا فكانوا على هذا زمانًا توافقون الحربية البيانية في ذلك ثم خالفوهم ورجعوا عن قولهم في ذلك.
وزعمت المختارية وهي فرقة منهم يزعمون أنهم في التيه لا إمام لهم ولا قيم ولا مرشد، لأن عليّا كان قد أوصى إلى الحسن وأوصى الحسن إلى الحسين وأوصى الحسين إلى محمد بن الحنفية فكان العلم والمقنع في دار التقية ولذنبه عاقبه ولأجله اخرج من داره فكانت تلك عقوبته إذ كان إماما على سبيل عقوبة الأنبياء وقد نبذ الآمر إلى ابنه عبد الله أبي هاشم.
وزعمت الرزّامية وهي فرقة من فرق الكيسانية أن أبا مسلم الخراساني حي لم يمت، ودانوا بترك الفرائض، وقالوا أن الدين معرفة الإمام وأداء الأمانة فقط.
وقال المجلسي (رحمه الله): مما يدل على بطلان قول الكيسانية في إمامة محمد رحمة الله عليه أنه لو كان على ما زعموا إمامًا معصومًا يجب على الأمة طاعته لوجب النص عليه أو ظهور العلم الدال على صدقه، إذ العصمة لا تعلم بالحس، وإنما تعلم بخبر علام الغيوب[10]. وأضاف المجلسي: وإن الكيسانية قد انقرضوا حتى لا يعرف منهم في هذا الزمان أحد إلا ما يحكى ولا يعرف صحته[11].
ومجمل القول إن محمد بن الحنفية الذي تنتمي إليه هذه الفرقة لم يدع الإمامة لنفسه، ولم يحدث عنه التأريخ بأنه نازع أحدًا فيها، وكل ما في الأمر أنه لم يجاهر في عداء المختار ولم يتظاهر في خصومته لأسباب سياسية، أما المختار فمن الجائز أن يكون قد انتحل لنفسه بعض الصفات لتدعيم مركزه في الكوفة. ولكن ما ورد عن الإمامين زين العابدين وولده محمد الباقر (عليهما السلام) من الثناء والترحم عليه يبعد عنه تلك التهم الباطلة.